مساءلة لمشروع اعادة نصب الجندي المجهول للجادرجي

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
16/06/2009 06:00 AM
GMT



لست افهم دوافع المعمار العراقي رفعت الجادرجي بإعادة نصب الجندي المجهول الى مكانه السابق بساحة الفردوس: هل هي محاولة انقاذ عمله السابق، ام مساعدة السلطات الحالية في التخلص من نصب الجندي المجهول في نسخته الصدامية بنصب قديم، ام انه ضرب من الاسهام الفني والسياسي في العودة الى بعض آثار الماضي التي قرر النظام السياسي السابق ان تختفي؟ لعل كل هذه الدوافع متوفرة في قراره الشخصي، فنحن ازاء قضية شخصية وموضوعية، العام فيها ضائع في السجلات والذاكرة وعالم الرموز العراقي الواسع، والشخصي حي يبحث عن آثاره التي جرى محوها. وثمة عنصر ثالث يتصف بخاصية مشتركة كما انه ديناميكي وغامض وواسع على نحو لا يمكن السيطرة عليه، وأعني به الزمن - الزمن الذي يعيد توزيع العناصر المادية والسياسية والثقافية والفنية للقضية مع الاف القضايا الشبيهة ليضعها في قياسات غير محددة نحتاج معها الى تدقيق بعض المفاهيم كما فعل ذلك الناقد المعماري الصديق الدكتور خالد السلطاني. والحال انني شخصيا عرفت بوجود هذا المشروع عن طريق ما كتبه السلطاني ما يجعل نصه مادة لاسهامي في هذه المسألة. بواسطة ذلك النص امتلكت تسهيلا يعفيني من بعض الشروحات، لكنني بالمقابل، وفي غياب المعلومات الخاصة بمشروع الاعادة، من حيث المخططات والشروح والرؤى، سأفتقر الى المادة التي اعتمدها صاحب المشروع نفسه، وبنفس القدر أراني اختلف في  النقاط الجوهرية مع ما جاء بنص الدكتور السلطاني.          
إن لنص السلطاني مدخلا يقدم شرحا كافيا كما يستدعي المعالجة. لنتأمل الجملة الاولى :"تشهد الاوساط الثقافية المحلية العراقية ولا سيما المعمارية منها  نقاشا جاداً بشأن قرار اعادة بناء نصب الجندي المجهول في ساحة الفردوس برصافة بغداد، المنفذ في عام 1959، والذي تم  ازالته لاحقا في سنة 1982 بدعوى  بناء نصب اخر للجندى المجهول في جانب الكرخ بالعاصمة العراقية. وهذا النقاش لا يتناول جدوى الاعادة من عدمها، ذلك لان قرار اعادة بناء النصب قد اتخذ من قبل الجهات التنفيذية وتمت المباشرة بازالة بعض مخلفات الموقع توطئة الى اعادة البناء.  وقد اعطى مصممه المعمار رفعة الجادرجي (1926) موافقته الاشتراك باعداد تصاميم مشروع الاعادة."
في هذا النص نعلم بوجود نقاش جاد، الا ان هذا النقاش لا يتناول جدوى الاعادة من عدمها، لأن القرار متخذ والجهات التنفيذية باشرت العمل. المتوقع إذن ان يكون نص السلطاني لا يعالج مشكلة الجدوى بل شيئا آخر. لقد بتّ بالامر، وما عاد مهما ان نناقش الجدوى بل ان نستقبل حدث الاعادة كما لو انه عودة الابن البار الذي نفاه الاب القائد قبل اكثر من 25 عاما. إن الأفق العام للحدث سياسي أما دلالات النصب الشكلية والبنائية المباشرة فهي محصّلة سلفا.
من الغريب ان نسجل على المعمار المثقف رفعت الجادرجي حدثين فنيين في الاطار الرمزي الوطني بتّ بهما من دون ان يناقش أحد "جدواهما" خلال اقل من خمس سنوات. الاول هو تصميمه للعلم العراقي الذي كتبت عنه مقالا بعنوان (علم بلا دولة) كما كتب عنه الصديق السلطاني ، وهذا هو المشروع الثاني. وحسب علمي ظهر مشروع العلم منتهيا جدا، بل ومفصلا جدا على قدر الحالة العراقية التي يختلط فيها الذكاء النفعي بغباء سياسي قلّ نظيره. لقد أجهضت السياسة والحالة الجمعية قبل العوامل الفنية والجمالية ذلك المشروع، أما من ناحية تقييم تلك العوامل فقد كان المشروع يتصف بجهل لا يصدر عن مثقف خبير. لقد قدم الجادرجي مشروعه الاول بليل ما أثار عليه الجماعات الفنية والثقافية ، والآن لا ارى ان مشروع اعادة نصب الجندي المجهول قدم بنهار. يقول السلطاني أن المشروع حظي بنقاش جاد. اتساءل: اين ومتى؟
ما الذي نناقشه حقا ههنا: استرجاع حقوق سياسية ام اعادة نصب الى مكانه بعد ان اقيم قبل نصف قرن وبعد ان رفع قبل 25 عاما؟ إن الجادرجي كما يبدو عقد الآمال مسبقا على جماعات تنفيذية تعمل على مستوى المدينة بالترافق مع جهازها السياسي اكثر مما عوّل على الجماعات الثقافية حقا (مشروع العلم العراقي اعتمد على استيهامات سياسية وعاطفية وعلاقات سياسية ساندة). ربما عوّل في مشروعه الجديد على نوستالجيا المثقفين التي باتت تسوح في شوارعنا- شوارعنا المخيفة التي باتت غريبة علينا، ونحن الذي اصبنا بعطب عاطفي نبحث عما فقدناه فيها من دون ان نجده، ولاسيما لعدم وجود مشروع حقيقي على مستوى الحياة يسعدنا ويلهمنا ويقوينا.
إن كلمة ( الجدوى) التي وردت في مقال السلطاني بحاجة الى تحديد اضافي. لانه ما الذي يبقى من الكلمة في المجال الثقافي إذا كان المقصود الجدوى الاقتصادية؟ أهي جدوى الكلف ام الجدوى التعبيرية الرمزية؟ من الواضح انه اذا اخترنا الجدوى الاخيرة، وهو ما يقربنا من الفن، فسيظل الامر غامضا. لنجعل الامور أوضح: إن (جدوى الاعادة) الذي تحدث عنه السلطاني ستكون جملة لا معنى لها إذا لم نتوقع منها أن تتضمن كلفا مادية واقتصادية وتعبيرية ونفسية وذوقية مضاعفة. وما يزيد من الكلف عدم قدرتنا على التدخل لأن القرار اتخذ، فإما ان نقلل من مستوى جدية النقاش، أو نحوله الى نقاش فلسفي خاص بالعودة والاعادة، وهو ما ادرك مغزاه بوضوح الناقد السلطاني وأخفاه. إننا لن نسهم لا في الاخفاق ولا في النجاح. لن نسهم في تعديل المسارات. إننا دائما كما كنا لا نتناول الا ما يتبقى من على الموائد التي فرغ منها الآكلون والشاربون. إننا احرار بعدم التناول بالطبع. احرار بالغيض. احرار في عدم الاختيار. احرار في النوستالجيا والغضب منها ، فالعودة تكلفنا الدموع وتدخين السكائر والاسراف بالحديث عن شبابنا وودائعنا القديمة. والان ما الذي يكلفنا اليوم اعادة نصب؟ أن نخسر مجددا- انا والعزيز خالد السلطاني- مطعم (العش الذهبي) الذي كان على الركن المقابل للجامع في ساحة الفردوس والذي يقدم افضل وانظف (باجة) بغدادية؟!
تعجز الكلمات عن وصف ما جرى ويجري في هذه الحاضرة العراقية التي تعاني من نكد قديم. من وجهة نظري لا زالت مدينة بغداد منذ ثورة تموز 1958 تغير خطوط مسارات بناءها المدني والمعماري على اساس من عبور افق واحتلال ما خلفه وعدم اهتمام يصل الى حد الاستهتار للاثاث المحطوم الذي خلفته وراءها. إن احتلال الافق هو تعبير عن توسع المدينة، في بنيتها ووظائفها، وهو أمر طبيعي، بيد ان هذه الحركة لم يجر عقلنتها بمهارات وقياسات العقل المخطط والمراجع، من هنا كلما توسعت المدينة ورطت نفسها بتفكك تال، مكررة اهمال، بل ونسيان ما بات خلفها، معيدة دورة انتاج لا اضافة فيها، بل هي تكرر نفس الجنون، نفس القياس، نفس الفن المعماري المقلد والسخيف، منتجة ثآليل معمارية تنبت فجأة، وفراغات صحراوية مخيفة، مستولية بعنف على الرئة الخضراء للمدينة ومساحات زراعية منتجة. لعل السلطة التي اعتادت الخوف من الناس احتاجت الى فضاءات يمكن مراقبتها او ربما شعرت انها من القوة بحيث تترك الناس يندفعون الى اجواف فارغة للتخلص منهم ومن مسؤولياتها الاجتماعية. على هذا النحو كانت المدينة تتوسع وتتريف وتضمحل خلف بناء ما، تاركة في كل مرة خرابا خلفها، جاعلة من مبدأ التراكم المعرفي والمدني خرائب يجب دائما فتحها والبحث بين ركامها المتنامي عن درة او خاتم او سر.
المثقف العراقي ذو اللون العاطفي هو باحث في الخرائب وما بينها. اسألوا مثقفي البصرة عن مدينتهم التي ظلت تتفكك وتتراخى وتتحول الى هياكل معمارية تحرقها الشمس وتفسّخها الرطوبة ثم تفتحها الذاكرة بعد حين مع الحيرة والتجارب الروحية الوعرة بحثا عما تخفيه بلا طائل. والآن لا اخفي عليكم انني انا الآخر اراني بين الحين والحين التحق بهذا البحث الحزين متعثرا بالبيوت التي فقدت حميميتها والخرائب التي تشقها امتدادات افقية والفراغات التي تلهبها الشمس والخلايا السرطانية للطرق التي لا تؤدي الى مكان محدد ملتفة على نفسها تتغذى على قرارات السلطة وتفاهتها ورقاعتها. وأصارحكم القول أنني لست متأكدا حقا، ليس بسبب ضعف الذاكرة فقط بل والاعتياد ايضا، إن كان نصب الجندي المجهول الذي اقتلعته تلك الحركة المجنونة تشكل في ذهني درة او خاتما او سرا او موقعا ضائعا، أو مجرد حركة متحذلقة ساذجة لقوس بارد من الرخام؟ إني اضع كل هذه الاوصاف معا من اجل ان ارضي بعض أذواق الطبقة الوسطى البغدادية التي غادرت الميدان تاركة الكثير من الثرثرة عن تذكاراتها. لا اخفي كذلك أنني لست متأكدا من ذاكرتي عن هذا النصب، ومن عاطفتي منه. إنني ابن زماني ولست حارسا من حراس المدينة البلهاء، ولا جامع تذكارات يندب حظه، بل مواطن يسعى الى انقاذ عقله من ثرثرة الادب التذكاري واستعذابات الماضي المريضة، لكنه لن يفوت موعدا لشرب الشاي مع صديق ذكي في احلك الظروف. لو سئلت حقا في ايام الحرائق وفي ايام كانت السياسة فيها تهدّ وتبني من دون حساب ولا كتاب لما أجبت بغير هذا: انقذوا الناس.. هذا هو المشروع الأصيل!  
إن الحياة تجربة تتجدد وتتكرر ولكن ما ينقضي منها، ويدخل الى افقه، ويغيب، لا يستعاد إذا لم ننسه أصلا، ولا نسترجعه حقا من دون لعبة اخرى، لعبة مثيرة وحاذقة تغير المنظور كله وتزلزل توقعاتنا. إن الاسترجاع هو وهم من اوهام الشيخوخة، وهم المتضايقين المفرغين من الاهتمام بالحياة، وهم يدع ابصارنا عالقة بالماضي، مستدخلا في عقولنا تاريخانية لا تدري إن كانت فاشية او تقدمية او جماعية ظرفية، بيد انها بوجه عام بليدة وغير نافعة. إذا ما تشاطرنا- ونحن نتشاطر دائما في لغتنا الساحرة الجميلة من دون خسائر كبيرة- سنتحدث عن حياتنا الماضية بافعال المستقبل او الحاضر. تشرح اللغة ما لا تستطيع الاشياء ان تجمعه بالكاد بين كثافاتها الخرساء. يصور محمد خضير مدينة تراكب حاضرها على ماضيها، وسكانها سيرسمون خرائط لا تنقذ شيئا بل تدلل فقط، من وجهة نظر مراقبين متخفين او يظهرون ما بين الحين والآخر، على وجود سر، صفقة، كتاب خاص جدا، مواد علمية سرية. إن اقتصاديات اللغة تؤشر الى المناطق التي خلفناها وراءنا في تلك المدينة المرتعشة امام مراقب السلطة ومراياها العاكسة. سر! نحن ملغومون باسرار حياتنا الكئيبة ، وبالطبع سيعجبنا بطولة اكتشاف المستور. بيد ان قوة المدن انها تغير من طباعنا وتشغلنا بالحياة عن الماضي من خلال تجددها الدائم وما تبقيه لنا من اطعمة مادية وروحية. كنت اتمنى أن ارى الجادرجي بطلا تراجيديا يبحث في اساسات ارصفة قديمة وجديدة ليجد بقية عاصية من بقايا نصب الجندي المجهول المرحل بقرار من السلطة. سيكون هذا جميلا جدا، انسانيا، فعلا دراميا ومجانيا يساوي كنزا. وكنت احب أن يكتفي بهذا، وسنكتفي بحكاية منه لا يقصد منها استعادة شبابه، ولا اشغالنا بمشروع رمزي لا يضيف شيئا نحن الذين نود التخفف من الرمزيات باسم الحياة. لكن بتقدمه في العمر يتشاطر الجادرجي على نفسه بفعل سياسي لا يحتاجه أبدا من اجل ان يصنع مشغلة كبيرة تعيد علينا نصبا لا يتناسب مع الساحة التي كان يشغلها، الا اذا قام المعماري بتغيير قياساته او قام بمناورة بنائية او انشائية او ازال اكبر فندقين في عاصمتنا البائسة، والا إذا جعل من نهر السيارات الهادر يستدير منزلقا كالماء ذائبا في الهواء عند اكثر المناطق ازدحاما من بغداد، ولسوف يكون الامر لا يطاق من ناحية الحياة والزمن الاجتماعي للناس عندما تجري فيه فعاليات تحتاج الى اقفال الشارع. ( لن يجرؤ بالتحرش بالجامع بالطبع!).
اننا ازاء مشروع كبير اذن، مشروع سياسي اولا حتى برمزيته التي ستتكئ على جدراننا القديمة، واقتصادي ثانيا، او بالعكس من دون حدوث تداعيات مثيرة، فالمشاريع في العراق الجديد لها اكثر من ذراع وأكثر من ليّ ذراع. بيد ان علينا القول ان المدينة التي قررنا انها لا تلتفت الى ما خلّفته وراءها ستلتفت هذه المرة، وسيكون عليها ان تدفع تكاليف التفاتتها التي للاسف لم يكشف عنها اي تقرير بالتكلفة بعد في زمن باهظ التكاليف يموت فيه الناس بالعنف والجوع والمرض والاسى. 
يشرح الناقد المعماري خالد السلطاني لب المشكلة بطريقة ايجابية. لنتركه يتحدث عن الاعادة:" يستدعي مفهوم (الإعادة) نسقاً من الدلالات الموحية لفعاليات يراها البعض جد ايجابية، اذ اعتبرت وسيلة مهمة لحفظ (او "أعادة حفظ"  بالمعنى الدقيق) لرموز الذاكرة الجمعية، انها في هذا المغزى ليست محض (نوستالجيا) عارية، وحنيناً إلى ماضٍ مضى، بقدر ما هي فعل لتثبيت قيم ارتبطت بشكل وبآخر بأحداث مهمة شهدها البلد من قبل ويتم استرجاعها عبر شواهد مادية مرئية شكّل حضورها في السابق دلالات خاصة للمكان، واغتنى ذلك الحضور بكفاءة التعبير عن رمزيتها. من هنا يتعين فهم الإشارات التي يبثها قرار (اعادة النصب) وربطها بالمتغيرات التي بدأت تظهر وتتبلور في الخطاب  المحلي: المعماري على وجه الخصوص والثقافي بعامة؛ بعد عقود من ممارسات عاتية في التهديم والتدمير والحذف والالغاء والنسيان والتجاهل، انها بادرة صحية لبدايات موفقة في مجرى صائب، يشتغل على  ثيمة الحفاظ على الرموز الايجابية ويسعى وراء تكريس وجودها في المشهد المديني، رموز سبق وإن حُظيت بتعاطف كبير من لدن غالبية متلقيها، الذين وجدوا فيها انعكاسا لطموحاتهم وآمالهم في العيش بمجتمع آمن ومسالم ومتسامح وتعددي."
يتحدث السلطاني هنا عن استنتاجات مخمنة تقع ما بين السياسي والثقافي والسيكولوجي في معنى الاعادة، مستخدما لغة تبريرية غير مناسبة. إننا لا نتحدث عن حفظ سجل بل اعادة جسد كامل، اعادة اسقاطه في مكانه السابق الذي تغير تماما، ولن تنقذه من اي اسقاط غير حكيم لا نوستالجيا تربوية ولا رمزية شعبوية ولا اشباع غرائز جمعية لسنا اصلا متأكدين من وجودها او لجدواها في قضية مثل هذه. إن عصر النهضة الاوربي من زاوية ما هو نوع من بعث الثقافة الاغريقية، بعث لبعض القياسات والاشكال والمنظور الانساني والحضاري وليس عودة الى الاغريق. بعث جماليات وتوليد قرائن تربوية وشكلية منها. ثمة اعادة ترميم وليس عودة ميت. لقد فهم الاوربيون، بالرغم من الأخطاء والتعصب، أن تراثهم الأغريقي يمكن ان يعمل في الحاضر على مستوى المفاهيم الخاصة بالحرية والبحث والاكتشاف. ليست الاعادة او العودة غير بناء مدارج نحو الخارج والداخل وربطها معا والبحث عن الضوء الحقيقي لنهارات معاشة لا تلك التي عاشها ارسطو او افلاطون. إن حركة النهضة كانت معنية بازدهار الحاضر وليس بإخراج توابيت اغريقية ورومانية من المقابر. حتى التجربة الاركيولوجية العادية تتلخص بالكشف والحفظ وليس تصنيع نسخ او تحويل الواقع على صورتها. إن الدليل العلمي والعالمي واضح. علينا ان نعرف اين نتوقف في مسألة لا يمكن افلاتها كما نفلت عصفورا سجينا. المشكلة في العراق ان "الممارسات العاتية" للسلطة البائدة تواصل الحياة مرة اخرى في اسقاطات متعسفة، وفي (اعادة ما أزاله وإخفاء ما أقامه). اليس هو نفسه يحيا بيننا مع بعض التحسين؟ إن بعض المثقفين يحاسب الماضي مثلما يحاسب المعلم تلميذا لانه اخطأ في حل مسألة حسابية او مزق دفتره، أو يواصل العناد في قضايا راحلة يجب مناقشتها بأفق نقدي وليس استعاديا. والحال إن نقد الممارسات العاتية، بدلا من ان تجدد ارواحنا، وتبحث عن الجديد في المقاييس والمواد والجماليات والتجربة، راحت تسلينا بوقائع وحكايات وأمتعة كانت تؤدي وظيفتها في الايام الخوالي وتفرضها علينا. علما انها في زمانها لم تناقش الا من خلال الاستقبالات الايجابية والروح الاحتفالية. أرى أن النوستالجيا الهادئة التي يجيد كتاب الادب صياغتها هي افضل واكثر نشاطا وتلميحا وتهذيبا وشرفا بكثير من كل هذه الاسقاطات السياسية – الثقافية المكلفة.          
يطلق الناقد السلطاني تحديدا للمشكلة بوضوح ليعود ويبرر الحل المتوفر في مشروع الاعادة نظريا، لأن المشروع لا زال بحكم القوة لا الفعل. يقول:" يتمحور النقاش، إذن، بخصوص مفهوم الاعادة، وكيف ستنعكس متغيرات الموقع على هيئة النصب القديم بارتفاعه المحدد، وهل بمقدور اية مدينة تستوعب نصبين لجنديين مجهولين فيها؟ وما اذا كانت تلك الفعالية تعني اعادة حرفية لما كان قائما في الماضي؟ وغير ذلك من التساؤلات التى تتطلب اجوبة مهنية للاشكالية المثارة التى نعتقد ان تأثيراتها المفاهيمية سوف لا تقتصر على قضية واحدة محددة، وبالتالي فان النقاش بشأنها (اشكالية الاعادة) سيظل امرا مطلوباً، يغني بوجوده حراك الخطاب الثقافي،  كما ان السؤال المتعلق بها سيكون سؤالا مثمرا وليس سؤالا (بلاغيا) مثلما دأب الإغريق القدماء على طرحه، كسؤال لا يبتغي إجابة ما."
السؤال: اين هو النقاش؟ من ناقش الجادرجي حقا؟ إن بعض الديباجات لها خاصية الاستباق والتحدث عن مجهول كمعلوم. إن " النقاش" يجريه السلطاني نفسه مع مفهوم الاعادة، وسرعان ما ينفتح على القبول بمشروع الاعادة المادي بطريقة عقائدية بعض الشيء، إذ يتحدث بالنيابة عن فريق ما. يقول:" ومع ان واقعة الاعادة تلقي لذاتها قبولا واسعا كونها تتيح فرصة للامساك بزمن مضى، متجاوزة بذلك حسرات الفقد والنسيان؛ فان قرار اصطفاء نصب الجندي المجهول ليكون تعبيرا عن تلك الفعالية، نراه قرارا صائباً وعادلا. اذ لطالما عبرت انصاب الجنود المجهولين عن شعور انساني سامٍ، لقي دوماً احتراما وتعاطفا عميقين من الوطن، الذي باسمه تخلد مأثرة اولئك الإبطال المجهولين الذين دافعوا عنه حد الشهادة، ورفعوا رايته عالياً في وجه الطغيان والاحتلال، ما يرفع من شأن قيمة ذلك الاصطفاء ويعزز من صدقية القرار المتخذ. بتعبير آخر، يجسد فعل الجندي المجهول وحدة البلاد، ويعبر عن آمال مواطنيه جميعهم بغض النظر عن القومية او الدين او خيارات الانتماء الايدولوجي."
تصلح هذه الديباجة الى ان تكون مقدمة لمشروع اعادة نصب الجندي المجهول موجهة الى امانة العاصمة بقلم رفعت الجادرجي.
دعونا ننتهي من هذه القضية التي لا يعيق جهدنا النقدي فيها تنفيذ المشروع، ولا يوقف حماس الجادرجي في اسقاط اعادة نصبه في نفس الساحة، كما لا يخفف من دوافعه السياسية وهو في سن "استرجاع" ما يعود له من تاريخ وكبرياء والدفاع عن رأسماله الرمزي بطريقة مثيرة للجدل. المثير اننا في النهاية سنستفيق ذات يوم على ملكية نصبين للجندي المجهول: الاول متقشف في الشكل والبناء والرؤى، بسيط وابن زمانه، مولود من تجارب ومعطيات معمارية تعود لسنوات أواخر الخمسينيات ولا يعدم ان يكون جزءا من التجارب الفنية لرسامي الخمسينيات. إنه كذلك لا يزيدنا القا وبهجة، وليس واضحا انه سيعيدنا الى ايام شبابنا او يوازن اندفاعات هذا الزمن، وهو فوق ذلك لن يجترح شيئا لا نعرفه. لن ندري بالطبع هل سيكون أعلى أو أوطأ، على مسطبة او على منبسطات فسيحة، ولا ندري طبيعة مادة اكسائه إن كانت من المرمر او من اللدائن الصناعية الخفيفة ، ولا ندري إن كان سيظهر باللون الزهري او الاخضر او الازرق. إن السلطاني يشير الى ان اعادة النصب لا بد من ان تأخذ بالحسبان متغيرات المكان. ها نحن اذن ازاء كلف استيعاب غامضة وضعت امانة في عنق صاحب المشروع. الصديق السلطاني يدرك المشكلة بيد انه يشير الى مفتاح لا يمكن استخدامه. إنه مثلي لا يمتلك غير ان يتكلم.
النصب الثاني باذخ مرصع وواسع يضاهي منشأة تتجمع فيها غرائب مصمم مهووس يعمل لمصلحة زبون استعراضي: مواد انشائية وصناعية مختلفة، نجمة كبيرة، درع يقال انه يسقط كتعبير عن الشهادة، قبر مرتفع مصنوع من الفولاذ، ملوية لا معنى لها تضيء، اقبية مهولة قادرة على ان تصلح لعدد من الاهداف والوظائف.
لدى السلطاني اوصافا واقتراحات للنصبين لا يعني اختلافنا فيها امورا مهمة، وأنصح بالرجوع الى النص الكامل من مقالته في صحيفة المدى وموقعها الالكتروني. المثير أنه يقبل بوجود نصبين، ويقترح اعادة توجيه نصب الكرخ لفعاليات اخرى. افق اقتراحاته سياسي رمزي، مثلما هو افق صاحب مشروع نصب الجندي المجهول في الرصافة. والحال أن القبول بنصبين اثنين للجندي المجهول هو ضرب من تشابك ما هو سياسي وثقافي واسقاطه كله على الحاضر بكلف مخمنة وغير نقدية، بيد ان محمولات القرار المباشرة سياسية حقا، وأكثر من ذلك أنها تعبر عن الاحتفاظ بانشقاق وطني قديم لم يعد له معنى ويراد ادامته واعادة توجيه آثاره بتعاليم الفن المعماري وتوصياته. الا يبدو أن عمل المعماريين راح يماثل احيانا عمل السياسي من حيث الاصرار والاحالة الدائمة الى الزمن الذي يحل المشكلات او يعقدها او يكتشف مهربا يشبه السحر- هذا الزمن الذي قد نكتشف في ما بعد أنه ماضينا، أو عقدنا المرضيّة، او شبابنا الذي ولى بلا رجعة، أو نماذجنا المثالية التي فقدت وظيفتها وقيمتها الا انها ما زالت راكدة في الاعماق كسمكة قديمة مهيبة ذات حراشف سميكة؟
إن أصعب المهام تذللها سياسة خرقاء او تزيدها صعوبة سياسة عاقلة. لا أهزل .. انا جاد جدا!